دور دراسة تاريخ العلوم عند العرب في مواجهة العولمة

الدكتور عبد الناصر كعدان*

 

 

ملخص البحث

أصبحت دراسة التاريخ بشكل عام وتاريخ العلوم بشكل خاص، تحتل أهمية استراتيجية قد تفوق في أهميتها الكثير من العلوم الأخرى ذات الطبيعة الإنسانية؛ وذلك في ظل انتشار ثقافة العولمة، ومحاولة سيطرة ثقافة القطب الواحد. لذلك فقد أصبح خطر الهيمنة الثقافية تحت شعار ما يسمى بالعولمة الثقافية الشغل الشاغل لكثير من المثقفين والأكاديميين، فضلا عن المؤسسات العلمية والجامعات والأكاديميات لدى كثير من الدول. لقد تنبهت بعض الأمم التي تتمتع بإرث ثقافي وحضاري هامين إلى خطر هذا الغزو الثقافي والفكري، فبدأت تعمل على إعادة النظر في برامجها التعليمية، وذلك باتجاه  ضرورة تعريف أجيالها، وبالأخص جيل الشباب، بإرثها الحضاري والثقافي ومدى ما ساهمت من خلال هذا الإرث في بناء الحضارة الإنسانية. وهذا بالفعل ما نشهده مؤخرا في كثير من دول أوربا الغربية وبعض الدول الآسيوية كالصين واليابان. ولاشك أن إرثنا الحضاري العلمي العربي الإسلامي يحتل أهمية خاصة؛ إذ يشكل أساسا  بنت عليه أوربا نهضتها العلمية الحديثة.  ومن جهة أخرى، فإننا نشهد اليوم حملة تقودها بعض الدوائر والمؤسسات العلمية في الغرب، تهدف للنيل من الإنجاز الحضاري الذي تحقق على أيدي العلماء العرب والمسلمين إبان فترة القرون الوسطى، وتفسر تلك النهضة العلمية التي شهدتها المنطقة وقتئذ على أنها لم تكن إلا اجترار لعلوم الأقدمين. كل ذلك بهدف التشكيك في إمكانية العقل العربي أو المسلم في إمكانية استيعاب علوم العصر، ومن ثم قدرته على تسلم زمام البحث العلمي. إضافة لذلك كله، فإنه من الملاحظ مؤخرا وجود رغبة حقيقية لدى الأوساط العلمية في دراسة النتاج العلمي للعرب والمسلمين، وذلك من أجل الوقوف على العوامل الموضوعية التي هيأت مثل هذا النتاج والإبداع العلميين الذين تحققا على أيدي العلماء العرب والمسلمين الأوائل على مدى ثمانية قرون من جهة، وعلى الأسباب التي أدت إلى اضمحلال هذا الإبداع من جهة أخرى. كل ذلك من أجل تهيئة تلك العوامل مرة أخرى، وذلك للعمل على استعادة التمسك بزمام البحث العلمي من جديد، وبالتالي مواجهة الضعف والوهن العلمي الذي تعيشه الأمة اليوم.

 الهدف من هذا البحث هو إبراز أهمية دراسة التاريخ عموما وتاريخ العلوم خصوصا، وذلك في مواجهة محاولة هيمنة ثقافة القطب الواحد على العالم.

 

مقدمة:

     أصبحت دراسة التاريخ بشكل عام وتاريخ العلوم بشكل خاص، تحتل أهمية استراتيجية قد تفوق في أهميتها الكثير من العلوم الأخرى ذات الطبيعة الإنسانية؛ وذلك في ظل انتشار ثقافة العولمة، ومحاولة سيطرة ثقافة القطب الواحد. لذلك فقد أصبح خطر الهيمنة الثقافية تحت شعار ما يسمى بالعولمة الثقافية الشغل الشاغل لكثير من المثقفين والأكاديميين، فضلا عن المؤسسات العلمية والجامعات والأكاديميات لدى كثير من الدول. لقد تنبهت بعض الأمم التي تتمتع بإرث ثقافي وحضاري هامين إلى خطر هذا الغزو الثقافي والفكري، فبدأت تعمل على إعادة النظر في برامجها التعليمية، وذلك باتجاه  ضرورة تعريف أجيالها، وبالأخص جيل الشباب، بإرثها الحضاري والثقافي ومدى ما ساهمت من خلال هذا الإرث في بناء الحضارة الإنسانية. وهذا بالفعل ما نشهده مؤخرا في كثير من دول أوربا الغربية وبعض الدول الآسيوية كالصين واليابان. ولاشك أن إرثنا الحضاري العلمي العربي الإسلامي يحتل أهمية خاصة؛ إذ يشكل أساسا  بنت عليه أوربا نهضتها العلمية الحديثة.  

أهمية دراسة التاريخ عموما وتاريخ العلوم خصوصا:

   قد يتساءل المرء عن أهمية انعقاد مثل هذه الندوات، وعن جدوى بذل مثل هذا الوقت والطاقات المادية والبشرية من أجل العودة إلى دراسة الماضي. وللإجابة ببساطة شديدة على هذا التساؤل لابد لنا أن ندرك أن حضارات الأمم تقاس بمقدار تقدمها في ميادين العلوم والفنون، وتستمد الأمة تقدمها من تاريخها وتراثها، وخاصة من تاريخها وتراثها العلميين. فأمة لا تاريخ لها لا مستقبل لها. ولقد اهتمت الأمم المتقدمة بهذا التراث العلمي وفلسفته فكرست له أقساما خاصة في جامعاتها، ورصدت له الميزانيات الكبيرة لإنشاء معاهد ومراكز خاصة يعمل فيها علماء كرسوا العمر للبحث في التراث وتاريخه.

    ولم يقتصر اهتمام هذه الجامعات وهذه المعاهد على دراسة تاريخ علوم الأمم التي تنتسب إليها، بل إنها اهتمت أيضا بالتراث العلمي العالمي، وفي مقدمته التراث العلمي العربي الإسلامي، وذلك لأن أوربا استمدت الكثير من علومها من العرب المسلمين فكان لا بد لها لكي تفهم جذور انبعاث نهضتها العلمية أن تهتم بالعلوم العربية الإسلامية بالإضافة إلى المراحل الذي مرت فيها تلك العلوم وأصولها ورجالاتها. وبالرغم من تجاهل الكثير من المؤسسات العلمية الغربية للدور الإيجابي والهام الذي اضطلع به العلماء العرب المسلمون ومساهمتهم في بناء الحضارة الإنسانية، إلا أنه يوجد بعض المستشرقين من المنصفين أمثال "ديستارلبو" الذي قال يوما إن العلماء العرب المسلمين هم الذين مدنوا أوربا، وأمثال "سيتيو" عندما قال إن أوربا مهما جحدت فضل العلماء العرب المسلمين فلن تستطيع أن تنتزع بصماتهم من فوق قبة السماء لأن النجوم والمجرات تحمل أسماء عربية.

    لهذا كله كان الأجدر بنا نحن العرب أن نهتم بهذا التراث وبتاريخه وفلسفته. فدراسة الماضي هي التعرف على الذات  واستشفاف المستقبل وعنصر من عناصر العزة الوطنية، بل وإن الاهتمام بتاريخ العلوم دليل واضح على الرقي الفكري والحضاري.

    إضافة لذلك فهناك العديد من الأسباب الموضوعية التي تفرض علينا الاهتمام بدراسة تاريخ العلوم، من أهمها:

أولا- إبراز الدور الحضاري الهام للعلماء العرب:

   من الملاحظ حاليا أن بعض الدوائر والمؤسسات العلمية في الغرب تشكك بل وحتى تشوه الدور الحضاري الذي اضطلع به العرب والمسلمون الأوائل خلال حقبة القرون الوسطى، وتدّعي بأن العقل العربي وعلى مر العصور لم يتمكن من امتلاك ناصية العلم والمعرفة وتسلم زمام البحث العلمي، وأن تفسير ما حدث في القرون الوسطى، ما هو إلا اجترار لعلوم الأقدمين. لذلك لابد لنا إزاء هذا الزيف من أن نضع الأمور في مكانها الحقيقي، ونبين الدور الحقيقي والهام للعلماء العرب في تطوير العلوم التي ورثوها عن الأقدمين، فدرسوها وأضافوا إليها ثم قدموها للغرب الأوربي، الذي بدوره عمل ولا زال يعمل على تطويرها. ولأثبت مدى ما تمارسه بعض الدوائر العلمية في الغرب من إجحاف في حق ما أنجزه الأطباء العرب، أسوق إليكم المثالين التاليين:

    مما لاشك فيه أن اكتشاف الدورة الدموية الصغرى من قبل الطبيب البريطاني وليام هارفي  William Harvey وذلك عام 1628، كان أحد المحطات الهامة في تاريخ الطب. إلا أن الاكتشاف الأهم بالنسبة لتاريخ الطب عند العرب هو ما تم في بدايات القرن الماضي من إثبات أن ابن النفيس الدمشقي كان قد سبق هارفي في هذا الاكتشاف بنحو خمسة قرون. وبالرغم من أن هذا الرأي قد تم تبنيه من  قبل العديد من الدوائر العلمية المعنية في الغرب وعلى رأسها جامعة أكسفورد البريطانية، إلا أن هناك بعض الجهات العلمية لازالت تتعامى عن إدراك هذه الحقيقة، التي جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، كل ذلك بدافع التعصب المقيت.

    وتعود القصة من جديد إنما بثوب آخر هذه المرة؛ ففي عام 1982 صدر عن إحدى دور النشر البريطانية الطبعة السادسة لكتاب (أبلي Apley) في جراحة العظام والكسور، وهو أحد أشهر الكتب المعروفة في العالم في هذا التخصص. في هذه الطبعة يتحدث الكاتب عما سمّاه بنظرية التجبير المتأخر؛ والتي تعني باختصار وتبسيط شديدين أن هناك أنواعا من الكسور ولأسباب عديدة يجب التريث عدة أيام قبل القيام بتجبيرها النهائي. وقد عزا الكاتب هذه النظرية إلى البروفسور البريطاني جورج بركنز   George Perkins  والذي سمي في هذا الكتاب برائد نظرية التجبير المتأخر. كنت من خلال مطالعتي لبعض الكتب الطبية التراثية التي قام بتأليفها الأطباء العرب الأوائل قد وجدت أن ما يدعى اليوم بنظرية التجبير المتأخر قد تحدّث عنها الطبيب العربي الكبير ابن سينا في كتابه القانون في الطب وقبل البروفسور البريطاني جورج بركنز بحوالي ألف عام. ظلت هذه القضية حبيسة فكري وذلك حتى عام 1996 عندما عقدت الجمعية الدولية لتاريخ الطب مؤتمرها الدولي الخامس والثلاثين في جزيرة كوس اليونانية، وقد تقدمت وقتها إلى المؤتمر ببحث عنوانه طب الكسور عند ابن سينا، وفيه بينت في هذا البحث ومقرونا بالأدلة والبراهين هذا السبق العلمي لابن سينا. وبعد مناقشة طويلة أعقبت إلقاء البحث أقر المجتمعون في المؤتمر تلك الأسبقية لابن سينا.  عند ذلك سارعتُ وطالبتُ رئيس المؤتمر وقتئذ بتوجيه رسالة وباسم المؤتمرين إلى مؤلف هذا الكتاب بحيث يتم تصحيح واستدراك ذلك، واعتبار ابن سينا هو رائد نظرية التجبير المتأخر وليس كما يزعم المؤلف أنه البروفسور البريطاني جورج بركينز. وبالفعل فقد تم إرسال تلك الرسالة وباسم بعض المؤتمرين إلى مؤلف ذلك الكتاب. في الحقيقة لم نتلق أي جواب من المؤلف، وانتظرنا صدور الطبعة الجديدة من الكتاب. وبعد صدور الطبعة الجديدة، تفاجأ الجميع عندما اكتُشف أن صاحبنا المؤلف البريطاني قد أغفل الحديث تماما عن نظرية التجبير المتأخر، وبالتالي فهو لم يأت على ذكر البروفسور جورج بركينز ولا على ذكر ابن سينا. ترى هل أن هذا المؤلف البريطاني فضّل تصحيح واستدراك الأمر على جرعات؟ هل سيكون موضوعيا ويحق الحق ولو على استحياء؟ أم إنه التعصب وعدم الموضوعية، فللننتظر صدور الطبعة القادمة!!

  بالرغم من ذلك، فلابد لنا من أن نشير إلى الكثير من المنصفين من المستشرقين الغربيين الذين درسوا العلوم عند العرب، فأعجبوا واندهشوا بما أنجزه هؤلاء العلماء، بل اعتبروا أن ما تحقق في تلك الفترة كان بمثابة ثورة علمية حقيقية وبكل المقاييس. ولعل من أهم هؤلاء المستشرقين: الألمانية زيكريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب. حيث تقول في معرض حديثها عن مساهمات العلماء العرب في تطوير الجراحة مثلا: "فهذا الفرع بالذات يدين للعرب بتقدمه وصعوده المفاجئ من مرتبة المهن الحقيرة الدنسة التي تكاد تكون بمنزلة مهنة الجلادين والجزارين إلى القمة التي عرفها على أيدي العرب، فإلى العرب وحدهم يعود فضل رفع هذا الفن العظيم إلى المستوى الذي يستحقه، وإليهم وحدهم يرجع فضل بقاء هذا العلم".

ثانيا- دراسة التاريخ في مواجهة العولمة:

لقد كثر الحديث مؤخرا، خصوصا بين المثقفين، عن مصطلح العولمة. ولابد من القول بأن العولمة ليست مارداً خرج من القمقم، أو عفريتاً من الجن لا عَهْد لنا به، فقد قامت أمتنا بنوع من العولمة في السابق، كانت عولمة على مدى عدة قرون، وكانت عولمة استطاعت أن تصل إلى أصقاع الأرض كلها، فنحن لا نعادي العولمة من حيث المبدأ.

 ليس المشكلة في هذه العولمة الجديدة في أنها غيرت من اتجاهها ومن سرعتها؛ فقد كانت العولمة في أيامنا السابقة متجهة من الجنوب إلى الشمال فأصبحت متجهة الآن من الشمال إلى الجنوب، وكانت تسير ببطء، إلا أنها الآن تسير بسرعة هائلة، بحيث نلهث ولا نستطيع أن نتمثل أبعادها. ومن أجل ذلك نشعر أيضاً بنوع من الغضاضة، ونوع من التعب، حينما نتابع هذه العولمة ونتابع منجزاتها، وهذا أمر طبيعي. المهم في الموضوع أن تغيير الاتجاه أو تغيير السرعة لا يكفي لجعل الناس يقفون هذا الموقف الذي نراه اليوم من العولمة، المشكلة الكبرى في قضية العولمة أن الناس يعتقدون أنها تقصد إلى أن تمس بثقافاتهم، وهذا هو مصدر الخطر.

لقد مست الحضارة العربية الإسلامية في الماضي الثقافات جميعاً، فقد احتوت هذه الثقافات، واستفادت منها، بل إنها رفدتها. ونحن نعلم أن الثقافة العربية والإسلامية في المشرق والمغرب استطاعت أن تستفيد وأن تًغنى بالثقافة النوبية والثقافة القبطية والثقافة البربرية والثقافة الهيلينية أو الإغريقية والثقافة الرومانية ثم الثقافة الفارسية والثقافة السريانية والصينية والهندية إلى حدٍ ما. كل هذه الثقافات رفدت الحضارة العربية الإسلامية. ولذلك كانت ثقافات مقبولة، وأصبحت جزءاً من هذا التاريخ الحضاري لهذه الأمة، وقُبلت على أنها عولمة لا تريد أن تقضي على ثقافات الآخرين، ولا تريد أن تفرض ثقافتها على ثقافات الآخرين، وإنما على أنها الحضارة الجامعة لما حَسُن من هذه الحضارات جميعاً.

أما الحضارة الجديدة فإنها تحاول أن تقول للناس جميعاً لا حضارة عندكم ولا ثقافة عندكم وعليكم أن تقبلوا ثقافتنا وتقبلوا طريقتنا للحياة وتقبلوا طعامنا وشرابنا وكل شيء. هذه هي المشكلة الكبيرة.

قبل عولمة الكوكاكولا والماكدونالز رأينا عولمة الشاي والقهوة والشاورمة والبيتزا دون أي حرج. الناس قبلوا ذلك بكل أريحية، وبكل بساطة، لأنها لم تُفْرَض عليهم فرضاً. أما حينما تأتي فتفرض ثقافتك على الآخرين فهنا المشكلة، لأن هذه الثقافة كما قلنا شيء عزيز على المرء. هذه هي المشكلة الكبرى التي نواجهها اليوم والتي تجعل الناس يتحسسون مثل هذا التحسُّس من العولمة، ويحاولون بقدر ما يستطيعون أن يحاربوا هذه العولمة شعوريا أو لا شعورياً، وهذا أمر ينبغي أن نحاول الاعتدال فيه؛ نأخذ من هذه العولمة ما طاب وندعو ما كدر، نأخذ منها ما هو حسن وندع ما هو شر. أما أن نقبل هذه العولمة كما يقول بعض مثقفينا بحلوها ومرها وشرها وخيرها وما يحمد منها وما يعاب فهذا هو الخطر الذي ينبغي أن نجتنبه. هذه العولمة أتت بخيرات كبيرة وأتت بركابها بالتكنولوجيا التي نستمتع جميعاً بخيراتها، في القاعة نستمتع بكل خيرات هذه التكنولوجيا وفي بيوتنا وفي مراكبنا وفي أسفارنا وفي إقامتنا، في كل ذلك نستمتع بخيرات هذه التكنولوجيا، فهذه جزء من العولمة، وهي جزء ينبغي أن نستمسك به ونستفيد منه وأن نحسن، على العكس من ذلك، نحسن الاستفادة منه ونحسن الاقتباس منه والتعديل فيه.

ثالثا- إبراز مدى تأثير العلماء العرب على النهضة الأوربية:

   لقد كان تأثير العلماء العرب في مجال تطور العلوم في أوربا واضحا وجليا من خلال أمرين اثنين؛ أولاهما تلك الترجمات التي قام بها العلماء العرب وبمختلف اختصاصاتهم للكتب العلمية القديمة الإغريقية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية والتي بدورها ترجمت ثانية إلى اللغة اللاتينية في بدايات عصر النهضة. ومما لا لبس فيه أن في ذلك حفظ للتراث الهندي والفارسي والإغريقي من الضياع، فأكثر مؤلفات أبقراط وجالينوس في الطب مثلا كان الغرب قد تعرف عليها من خلال الترجمات اللاتينية المنقولة عن العربية. أما التأثير الآخر للعلماء العرب فقد كان من خلال ما أضافوه وما أبدعوه في مختلف أنواع العلوم كالطب والصيدلة والكيمياء والفلك والرياضيات والهندسة، وذلك من خلال الخبرات العملية التي كانوا قد اكتسبوها. ومن الواضح أنه لا يتسع المقام هنا لترديد أهم إنجازات العلماء العرب في مختلف ميادين العلوم، فهذا الأمر يحتاج لعقد العديد من الندوات والمؤتمرات لإيفائه حقه.

رابعا- التعرف على أسباب إبداع العلماء العرب:

إضافة لذلك كله، فإنه من الملاحظ مؤخرا وجود رغبة حقيقية لدى الأوساط العلمية في دراسة النتاج العلمي للعرب والمسلمين، وذلك من أجل الوقوف على العوامل الموضوعية التي هيأت مثل هذا النتاج والإبداع العلميين الذين تحققا على أيدي العلماء العرب والمسلمين الأوائل على مدى ثمانية قرون من جهة، وعلى الأسباب التي أدت إلى اضمحلال هذا الإبداع من جهة أخرى. كل ذلك من أجل تهيئة تلك العوامل مرة أخرى، وذلك للعمل على استعادة التمسك بزمام البحث العلمي من جديد، وبالتالي مواجهة الضعف والوهن العلمي الذي تعيشه الأمة اليوم. وأنا لا أريد في هذه العجالة التعرض لتلك العوامل والأسباب؛ فهو موضوع يحتاج إلى بحث مستفيض، يمكن أن يخصص له مؤتمرات وندوات للحديث فيه.

خامسا- دراسة التاريخ يدعونا لمزيد من التعلم والبحث:

إن التاريخ يعلمنا أنه حينما وَجَدَتْ هذه الأمة نفسها في تلامسٍ مع الأمم الأخرى، كان أولَ ما فعلته أن لا تقف موقف المتكبر، باعتبارها أمة فاتحة، وإنما أن تقف موقف التلميذ المتعلم، وهذا موقف يُذكَر لهذه الأمة ولم يذكر لأمة أخرى. لم يذكر التاريخ أبداً أن فاتحاً من الفاتحين وقف موقف التلميذ من الأمم المفتوحة، ولم يذكر التاريخ أبداً أن فاتحاً يطلب فدية للأسرى أن يُعلَّم أبناء هذه الأمة العلم كله، بكل جوانبه وكل مراحله. هذا الشيء يجب أن يبقى في أذهاننا، هذا هو الشيء الذي يجب أن نستفيده من تاريخنا وماضينا، لا أن نَجْتَرَّ هذا الماضي اجتراراً، دون أن نستفيد منه. يجب أن يكون موقفنا مع دراسة تاريخنا الماضي دائماً كموقف مرآة السيارة التي على المرء دائماً أن ينظر فيها ليرى ما وراءه من أجل أن لا يقع في حادث من الحوادث، ولكنه لو ظل ينظر إلى هذه المرآة وحدها فسـوف يصاب بكارثة ويصيب غيرَه بكوارث. لا يجوز أن نبقى ناظرين إلى هذه المرآة، ولكن في الوقت نفسه لابد من هذه المرآة، ولا يمكن للإنسان أن يقود مركبته إلا إذا كانت معه هذه المرآة، ليستهدي بها بين حين وآخر. هذا هو الذي ينبغي أن يكون في أذهاننا دائماً حينما ندرس تاريخنا، فهذه الأمة قد استفادت من الآخر، انفتحت على الآخر، بحثت مع الآخر، على صعيد مشترك، (( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ))  ثم كانت دائماً (( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها ))، وهذا هو الذي جعل هذه الأمة تبحث عن العلم، ومن أجل ذلك قام علماء هذه الأمة في البداية، وركزوا على نقل هذه العلوم إلى العربية، ثم عملوا على تطويرها.

 

الخاتمة:

من الملاحظ مؤخرا ازدياد الاهتمام الكبير لدى الأوساط العلمية في دراسة النتاج العلمي للعرب والمسلمين خلال مرحلة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وذلك لأسباب عديدة أهمها؛ الوقوف في وجه العولمة أو محاولات فرض ثقافة القطب الواحد. كما أن هذا الاهتمام كان هدفه في كثير من الأحيان دحض بعض المقولات التي تروج لها بعض المؤسسات العلمية في الغرب من أن عقلية العربي أو المسلم غير قادرة على تسلم زمام البحث العلمي. كذلك يفيد دراسة تاريخ العلوم عند العرب في الوقوف على العوامل الموضوعية التي هيأت مثل هذا النتاج والإبداع العلميين الذين تحققا على أيدي العلماء العرب والمسلمين الأوائل على مدى ثمانية قرون من جهة، وعلى الأسباب التي أدت إلى اضمحلال هذا الإبداع من جهة أخرى. كل ذلك من أجل تهيئة تلك العوامل مرة أخرى، وذلك للعمل على استعادة التمسك بزمام البحث العلمي من جديد، وبالتالي مواجهة الضعف والوهن العلمي الذي تعيشه الأمة اليوم.

***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



*  طبيب استشاري في الجراحة العظمية

دكتوراه في تاريخ الطب العربي الإسلامي

أستاذ ورئيس قسم تاريخ الطب - جامعة حلب

الأمين العام للجمعية الدولية لتاريخ الطب الإسلامي www.ishim.net

هاتف محمول: 300030 94 963،  فاكس: 2236526 21 963

ص ب: 7581

حلب - سوريا

بريد إلكتروني: a.kaadan@scs-net.org